اليوم يوم زفافي أقف أمام المرآة لأربط رابطة العنق التى أكرهها ولكني مضطر إلى ذلك، انظر إلى نفسي فى المرآة واتساءل هل المرآة تعكس الظاهر أم الباطن وأبحر في رحلة عميقة داخل نفسي أقف أول ما أقف عند مركز الذكريات داخل العقل وأتذكر أيام طفولتي عندما كان يتركني أبي وأمي مع شقيقتي عند جدتي والدة أمي التى تقطن فى المنزل المجاور لنا ويذهبا للعمل أيام اجازاتنا الصيفية.
وأتذكر عندما كانت تجلس جدتي على المنضدة المقابلة لباب الشقة وتصنع القهوة على السبرتاية لها ولجارتها أم نصر وكنت أطلب منها أن تصنع لي فنجان لاني كنت أعشق رائحة القهوة ومازلت فكانت تقول لي دائما هذه للكبار فقط ثم يتبادلا الأحاديث عن أمور الحياة عن أولادهما وأزواجهما والجيران وأسعار الخضروات والفاكهة في الاسواق وماذا يطبخان وماذا فعلا بالأمس وهكذا، وبعد الانتهاء من إحتساء القهوة تقوم جارتها بقراءة الفنجان لها فقد كانت بارعة في ذلك الأمر، وعندما تهم جدتي لتوصل جارتها إلى باب الشقة أقوم سريعا لأغمس أصبعى في طبق الفنجان المنكب فيه القهوة وأقوم بعلقه لكي استمتع بطعمها وأتذكر أول فنجان قهوة تناولته في حياتي عندما كنت أستذكر دورسي في الثانوية العامة.
وأترك مركز الذكريات التي لاتنتهى وأذهب إلى الأذن وكم كنت أسمع بها كلمات عتاب وتشجيع من أسرتي وألفاظ بذيئة من الباعة والسائقين والمتشاجرين في الشوارع والاصدقاء ونحن نلعب وتلقيها كلمات حب واعجاب من فتياتي التى تعرفت عليهن ولكنها كم سمعت صوت أذان الفجر والقرآن وهو يتلى في المنزل والمتاجر ووقت المغرب في رمضان قبل المدفع بصوت الشيخ الحصري والطبلاوي وعبد الباسط ورفعت فأنا عاشق لاصواتهم.
ووصلت إلى الانف فقد استنشقت كثير من الروائح الذكية والعفنة وعطور الفتيات ولا أنسى أم خضر زوجة البواب ورائحة تقلية ملوخيتها الكريهة التى كانت تعدها مرتين أسبوعيا على الاقل فأعتقد إنها كانت تضع خمسة عشر كيلو من الثوم داخلها لأن الرائحة كانت تعم السكن كله وينزعج منها الجيران فقد كانت أم خضر أحد أسباب غلاء الثوم والملوخية فى الاسواق، أما العين فكم رأت مناظر طبيعية جميلة وخلابة أبدع الله فى صنعها وأتذكر وأنا انظر بها إلى الكعبة أثناء العمرة منذ خمسة أعوام مع والدتي، وبكائها الحار على فراق جدتي صانعة القهوة لكنها كم نظرت إلى نهود ومؤخرات فتيات ونساء وهن يتبخترن في سيرهن.
والفم فكم أخرج من شتائم للاصدقاء أثناء الحوارات واللعب وللمارة والسائقين فى الشوارع أثناء القيادة وكلام معسول للفتيات التى تعرفت عليهن ولكنه لم يتذوق يوما منكرا أو أكل حراما وكم دعيت به الله ليغفر لى ذنوبي التى اقترفتها ونطقه بلبيك اللهم لبيك في العمرة، أما الكارثة الكبرى فهي الشفاه فكم قبلت شفاه بعض الفتيات حينما أوهمنا أنفسنا بالحب، ووقفت عند قلبي ووجد به الفناة التى سأتزوجها بعد قليل جالسة على عرشه ويسكنه أيضا الخير والايمان بالله ولا أكذب على نفسى فهو ليس بالقدر المطلوب لكنى أسعى لزيادته.
أما اليدين فأحمد الله إنهما لم يبطشا يوما ظلما بأحد وأتذكر عندما تحسست نهود وأجساد فتيات، والسعادة التى كانت تغمرني حينما كنت آلامس يد خطيبتي وعند توقيعى عقد وظيفتى لكن كم رفعتهما لاكبر بهما لبدء الصلاة والدعاء أيام الامتحانات خاصة الثانوية العامة وعندما لامست الكعبة، أما ما بين الفخذين فالحمدلله لم يمتد يوما للخطيئة أو لفرج إمرأة طوال أيام الشقاوة والعزوبية فيكفي ما فعلته شفاهي ويدي، واخر مكان لهذه الرحلة القدمين فأتذكر كم كنت أسير متلكئا ومرغما إلى المدرسة فى الصباح الباكر والطقس بارد، وكانت بارعة فى لعب كرة القدم حتى ألحقني أبي بنادى الترسانة وأنظر إلى ركبتي اليسرى وما ألم بها من إصابة أثناء التمرين عندما اصطدم بي زميلى علي جاموسة هكذا كنا نلقبه نظرا للعبه العنيف وضخامة جثمانه وطوله الذى كاد يتعدى المترين فكان مدافع صلد وأنا كنت مهاجم ماهراحرز الاهداف وعندما كان يدخل النادي تغيب الشمس ونضطر أحيانا إلى إنارة الأضواء الكاشفة، وحينما اصطدم بي تمنيت أن أكون أحد عاملي جمع الكرات من خلف الشباك وجلست أبكى فى الملعب وبعد الكشف أكد لي الطبيب أنه قطع فى الرباط الصليبي واضطررت إلى الاعتزال كما أقنع مدرب الفريق على بالاعتزال لأنه أصبح يشكل خطرا على مستقبل لاعبي الكرة المصرية
والآن سأذهب بهما إلى فرحي ، وتطرق والدتى الباب في هذه اللحظة وتناديني من خلفه يلا يا راضى حتتأخر على العروسة وأتحرك من أمام المرآة وتمر السنين وياتي يوم فرح ابنتى الكبرى فاطمة فقد وهبنى الله هي وزينب ومحمد وأقف أمام المرآة لاربط رابطة عنقى وأنظر إليها هذه المرة بشكل مختلف فهي تعكس الصورة المعلقة على الحائط صورتي أنا وزوجتي هدية يوم الزفاف فهذا اسمها وصفتها أيضا رحمها الله فقد رحلت منذ ثلاثة أعوام متأثرة بالمرض اللعين بعد رحلة زواج استمرت 33 عام. لأبحر هذه المرة داخل نفسي وأتذكر حياتي معها فالذاكرة لا تتذكر لها سوى أيام سعادتي معها وأذني وسماعها كلمات الحب والشكر والحمد منها وصوت أنينها وهي تتألم من المرض، وأنفي واستنشاقها لرائحة طعامها الشهي وعطرها فكانت تحب أن تكون في صورة مبهجة لي طوال أعوام زواجنا، وعيناي التى لم تنظر لأمرأة غيرها وكم انهمرت منها الدموع على الآمها وفراقها، وفمي كم دعا لها بأن يخفف عنها الآلآم ويرحمها، وشفاهي وهى تضع أخر قبلة على جبينها بعد الفراق، ويدي التى حملتها يوم زفافنا وتحتضنها فى أيامها الأخيرة وتحملها إلى مرقدها الأخير.
وقدمي التى كادت لا تحملنى فى جنازتها وعزائها والان استعد للذهاب بهما إلى فرح ابنتي الكبرى، ويطرق زينب ومحمد أولادي الباب قائلين يلا يا بابا حنتأخر على الفرح وقبل ان أغادر من أمام المرآة أقول لها من صنعك أراد ان يرى بك داخله وليس ظاهره لأنك لا تكذبي أبدآ وتظهرين الحقيقة مهما حاولنا اخفاؤها.